التاريخ يعيد نفسه ليست مقولة صحيحة بالمرة.
التاريخ يسيء إلى نفسه في مرات عديدة وهذه الليلة إحداها.
في مثل هذا الشهر وفي إحدى ليالي شهر سبتمبر، إنما قبل 34 سنة، دعا رجل دين يقيم في ضاحية بالعاصمة الفرنسية باريس أنصاره من الشعب الإيراني إلى التعبير عن رفضهم لحكم الشاه بطريقة احتجاجية لم يسبق لها مثيل في التاريخ: ترديد الهتافات من سطوح المنازل.
كان ذلك الرجل اسمه آية الله الخميني. المرجع الديني الشيعي المعارض الذي أمضى عقداً ونصف من حياته متنقلاً بين عواصم العالم ومنافيه من تركيا إلى النجف، ثم الكويت الذي رفضت استقباله قبل أن يستقر به المطاف في العاصمة الفرنسية باريس. هناك في حي الصحافة في إحدى ضواحي باريس ذاع صيت الخميني، رغم إقامته القصيرة، وقدّم للرأي العام العالمي بوصفه رجل الدين المنفتح والحضاري وصديق الصحفيين الذي صار يكرهم بعد ذلك بسنوات قليلة في إيران حسبما تفاجئ الصحفي البريطاني روبرت فيسك، وآخرون، وعبر عنها بغصة وألم أبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية منتخب في إيران والذي تمت الإطاحة به بعد الثورة.
بعد ثلاثة عقود من تلك الواقعة دعا شاب في مقتبل الثلاثين اسمه عبدالملك الحوثي أنصاره إلى القيام بنسخة يمنية “مشوهة” من طريقة الاحتجاج الإيرانية. وفي تمام التاسعة من مساء 3 أيلول سمعت، إنما بشكل محدود جدا، صيحات أنصار الحوثي من سطوح المنازل وصرخة “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل” وهتافات “إسقاط الجرعة والحكومة”.
الفرق بين الواقعتين، وبين الرجلين لا شك، كبير ومهول وصادم لكنه فرق غير مرئي وزئبقي بسبب حالة الاستقطاب، والعنف اللفظي، والمقارنات التسطيحية التي تسمم الذهن اليمني وتخبّل خطابات النخبة السياسية. إن الفرق بين دعوة العجوز الذي يقيم في حي الصحافة في ضاحية باريس، ودعوة الشاب الذي يقيم في كهوف وجبال مران كالفرق بين مدينتي صنعاء وطهران من ناحية حضارية وعمرانية وثقافية ومدنية. أو كالفرق بين د/ محمد خاتمي، المفكر العظيم ذي السبع لغات وأحد أبرز دعاة حوار الحضارات في العالم، وبين الوجه البارز والمتوحش للجماعة ممثلاً في شخص أبو علي الحاكم. وهو الفرق نفسه أيضاً، كمثال ثالث، إنما بصري، بين مشاهدة مسلحي جماعة الحوثي وهندامهم وأعمارهم -سواد كبير منهم من الأطفال- وبين الصورة الحضارية والاستثنائية التي يمكن للمرء أن يعجب ويصدم بها وهو يرى العشرات من الشبان والشابات الإيرانيين يقفون بمنتهى الأناقة والرقي، مختلطين بل و”متلاصقين”، في طابور طويل أمام السينما في شارع فالسيان في قلب العاصمة طهران. إنه فرق حضاري قبل كل شيء.
كيف يغفل الحوثيون، والأدمغة التي تفكر وتخطط للجماعة وأثبتت كم هي “ذكية” واستراتيجية في الفترة الماضية، عن أن الصراخ وترديد الهتافات من على سطوح المنازل كان في عصر الخميني فكرة جذابة وفاتنة لكونها وسيلة احتجاج سلمية أنيقة جذبت أنظار الغرب وأبهرت الصحافة العالمية. اليوم لا يمكن النظر إلى دعوة الحوثي إلا باعتبارها ضرباً من السخف والغباء والتقليد الاعتباطي (وبالعامية الشعبطة!).
فلا الزمان نفس الزمان ولا صنعاء طهران.
والرئيس هادي الضعيف ليس بالطبع شاه إيران الديكتاتور.
والمؤسسة الأمنية والعسكرية اليمنية الجريحة والمنقسمة التي تتلقى الضربات القاصمة من جهات عديدة ليست بالتأكيد السافاك: جهاز الرعب وأقوى جهاز مخابرات في الشرق الأوسط وقتها.
لنبدأ بالعصر. لا زمن الحوثي كزمن الخميني، ولا الأوضاع الأمنية والسياسية في طهران في أيلول 1979م هي نفس، ولا حتى ربع، الظروف الحالية في صنعاء التي يفرض عليها الحوثي حصاراً مسلحاً ناعماً، بلباس سلمي، من أكثر من جهة ويشلّ حركتها كلياً منذ أسابيع دون سماع طلقة واحدة من قبل الجيش اليمني (وهذا ما يجب أن يبقى الحال عليه).
كانت دعوة الخميني بترديد صرخات الاحتجاج من سطوح المنازل ردة فعل غاضبة على قرار حظر التجوال في المدن الإيرانية وإجبار المواطنين والمحتجين على المكوث في منازلهم قسرياً وبعد سلسلة الأحداث العنيفة التي سيلي ذكرها لاحقاً. هكذا إذن ينبغي أن تقرأ الدعوة. إنها فعل مضطر لا بطل، وصنيع مظلوم ومضطهد لا متبجح وراغب في استعراض قوته.
وعلى النقيض من الخميني الذي كان منفياً وطريداً، تحجّ الرسل الرئاسية إلى عبدالملك الحوثي لاسترضائه ومفاوضته ونيل موافقته وهو الذي تحت يديه نفوذ وسلطة وسيطرة ميدانية على محافظات ومدن يمنية عدة.
وعندما عاد الخميني إلى إيران كانت من الممكن ألا يسمح للطائرة بالهبوط في أي مطار فضلاً عن قصفها جويا. لا مجال البتة للمقارنة. لقد دعا الخميني إلى التظاهر في سطوح المنازل مجبراً بحكم قرار حظر التجوال فهل منعت الحكومة اليمنية أنصار الحوثي من التظاهر؟
هل هاجمت مخيماتهم؟
هل قررت حظر التجوال كما فعل الشاه؟
على العكس يجوب أتباع الحوثي شوارع صنعاء بسلاحهم في مرات عديدة دون أن يعترضهم أو يضايقهم أحد.
وبينما يملك عبدالملك إذاعة وصحفاً ومساجد ومحافظات وقناة تلفزيونية يتحفنا كل أسبوع بخطاب ما كان الخميني ليسمع صوته ويصل إلى مدن وقرى إيران لولا قربه من الصحفيين في باريس وما أتاحه له ذلك من امتيازات للتواصل والحديث الإذاعي والتلفزيوني بحرية.
وفق كل هذه المعطيات الأولية إذن بوسعي الجزم أن دعوة ىية الله الخميني كانت الخيار الوحيد المتاح والخيار الأقل كلفة وأكثر حفاظاً على السلم الاجتماعي، بينما دعوة عبدالملك كانت الخيار الأكثر قلة عقل وغباء وتمزيقاً للسلم الاجتماعي.
هل يدرك الحوثي أن دعوته هذه حولت الاحتجاج المشروع ضد قرار تجويع الناس وإفقارهم بالجرعة إلى مقامرة ووسيلة استثمار سياسي وموجة جديدة من الثورة الإيرانية!
لقد حول عبدالملك الاحتجاج –وقبله بيان مجلس الأمن طبعاً- من خلاف داخل البيت اليمني إلى صراع بين سنة وشيعة وبين السعودية وطهران بدعوته الحمقاء -نعم الحمقاء واللامسئولة- بالصراخ من أعلى المنازل.
ومما يصيب المرء بالصرع وآلام الرأس أن النخب السياسية تغفل الفروق الجوهرية بين الوضعين في طهران في أيلول 1979م وبين صنعاء في أيلول 2014م وتخدم الحوثيين وخطابهم من حيث أرادت الإضرار بهم.
لننظر إلى الحدث من زوايا مختلفة.
في زمن الخميني كانت وسائل الإعلام في قبضة الدولة ولم تكن ثورة المعلومات وقفزة الانترنت وقتها، قد وصلت إلى الشرق الأوسط بعد، ولا ظهر الإعلام التواصلي (فيسبوك وتويتر) وما يعرف بالمواطن الصحفي، حيث بات في وسع كل إنسان أن يكتب في حائطه مثلا: الموت لأمريكا الموت لإسرائيل.. مثلما يفعل أنصار الحوثي أنفسهم الأمر الذي كان متعذراً كلياً بالنسبة للمحتجين الإيرانيين.
باختصار كانت الحرية الفرد قبل ثلاثين عاماً شيئاً مجازياً لا أكثر. وبالتالي فان ما قام به الخميني هو ابتكار طريقة سلمية للاحتجاج، لا تعزيز الشرخ والانقسام الاجتماعي كما فعل متهور مرّان.
وهذه النقطة الأولى: الزمن.
ماذا عن الدولة ونظام الحكم؟
كان الشاه محمد رضا بهلوي يحكم إيران بقبضة من حديد ويتعامل معه الغرب وينظر إليه باعتباره الشرطي الأول، والأعلى كعباً وأجراً، في منطقة الشرق الأوسط. والفضائع التي تنسب إلى جهاز مخابراته السافاك أمر شائع ومعروف ويقرّ به حتى أعداء الثورة الإسلامية وولاية الفقيه والكتاب والصحافيون الغربيون. أما في اليمن فأين هي الدولة أصلا وأين هو النظام وهل يتصرف هادي حقاً كرئيس جمهورية؟ لقد أسقطت مليشيات الحوثي في عمران واحداً من أكبر معسكرات الجيش اليمني وقتلت قائده فما الذي حدث؟ ذهب إلى هناك في حماية وتنسيق وترتيب جماعة الحوثي وأعلن فجأة تسلم المحافظة دون حتى ذكر وتأبين الجنود الضحايا الذين قتلوا في اقتحام اللواء أو قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء من الطرفين وكأن كومة الحجارة والمباني أهم من الإنسان وضحايا وجرحى معارك ستة أشهر.
الأهم، ان الخميني ورجال الدين بالجملة كانوا مستهدفين بالاقتلاع في إيران، فقد سعى شاه إيران جاهداً إلى اقتلاع الدين وعزل المؤسسة الدينية وإضعاف تأثيرها على الحياة العامة من خلال التشدد في تطبيق النظام العلماني. أما في اليمن فليمدد أبا حنيفة ولا يبالي. يكفي أن محافظة صعدة تتمتع باستقلال شبه ذاتي ومصائر الآلاف من الأسر والناس يقررها ذلك الشاب الصغير الذي دعا إلى الصرخة وكأن جميع الأبواب أقفلت في وجهه ولم يعد بيده طريقة للتعبير عن الاحتجاج سوى بالطريقة الخمينية!
لنسرد الأحداث بشكل تسلسلي:
في 8 سبتمبر 1978 خرج الآلاف في مظاهرة احتجاجية بطهران فقتل 4 آلاف متظاهر إيراني بأوامر من حاكم طهران العسكري بإطلاق النار على المتظاهرين فيما بات يُعرف بأحداث “الجمعة السوداء”. حتى أن الفئة الصامتة من الشعب الإيراني تأثرت، وانحازت مباشرة إلى المحتجين فازداد السخط الشعبي وخرجت الأمور عن السيطرة وكانت المظاهرات كلها تهتف بصوت واحد “سنقتل سنقتل من قتل إخوتنا”. (كان اليسار والقوى الليبرالية شريكاً قوياً وأساسياً في كل الاحتجاجات بطبيعة الحال).
هنا تدخل الخميني، بحكمة ودهاء، وحث المتظاهرين إلى تحييد الجيش وعدم معاداته بل العمل على استمالته عاطفياً، وبالفعل خرجت إثر ذلك المظاهرات حاملة أزهار وورود وضعت في فوهات الرشاشات، مع شعارات: “أخى في الجيش لماذا تقوم بقتل أخيك” حسبما تذكر الباحثة والصحفية منال لطفي.
على النقيض من ذلك الوضع في اليمن.
لا قوات الأمن قتلت أربعة آلاف من المتظاهرين الحوثيين، ولا هادي كالشاه، ولا عبدالملك كالخميني، ولا الحوثيون متظاهرون أصلا بالمعنى الفعلي للكلمة. باستثناء مظاهراتهم في صنعاء فإن مخيمهم في “الصباحة” بمحيط العاصمة مخيم مسلح وبعيد كل البعد عن الاحتجاج السلمي على النحو الذي خرجت به في أيامها الأولى الجموع الإيرانية. بل العكس: الحوثيون هم من هاجموا معسكرا تابعا للجيش -أيا كانت المسميات والذرائع- واستولوا على أسلحته وقتلوا قائده!
كانت الاحداث تتصاعد في سياق بديهي في إيران:
بعد دعوة الخميني أنصاره باستمالة الجيش عاطفياً، وتوالي الانشقاقات داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتزايد الانتهاكات من قبل نظام الشاه دعا الخميني البازار (أي التجار او النخبة التجارية) إلى الإضراب فأضرب حسب لطفي” الجميع بسبب العلاقة التقليدية الوثيقة بين البازار والحوزة في قم وأصاب إيران الشلل التام”. تلا ذلك مباشرة دعوته “عمال النفط لوقف التصدير، والإنتاج فقط بما يكفي لسد حاجة الإيرانيين اليومية. فقال الشاه لعمال النفط: سنطردكم ونأتي بعمال أجانب بدلا منكم”. فاستفاد الخميني كثيراً من الخطأ الفادح الذي صدر عن الشاه (كما يستفيد الحوثي من أخطاء هادي والإصلاح والمشترك) وأصدر فتوى تبيح هدر دم العمال الأجانب، وأمر بدفع رواتب عمال النفط من الأموال الشرعية، أى الخمس لمرجع التقليد”. مما أكسبه مزيدا من التعاطف الشعبي لدى الشارع الإيراني.
تسارعت الأحداث وأخذت طابعاً مسلحاً مع قيام الطلبة بإحراق المصالح الأجنبية كالبنوك وشركات الطيران والشركات”. وهذا ما نخشاه في صنعاء وإن على نحو، وضد أهداف مختلفة.
ووصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة عندما دعا الخميني إلى “تنظيم إضراب كبير في ذكرى عاشوراء يكون بمثابة رسالة أخيرة للشاه”. وهنا أعلن رئيس الحكومة العسكرية الإيرانية أزهري، إلغاء الاحتفال بذكرى عاشوراء حتى في المساجد، وحظر التجول”. وهما القراران الذين أجبرا -نعم أجبرا- الخميني إلى “دعوة الإيرانيين للتظاهر من على أسطح المنازل.
هكذا كانت الأوضاع في طهران في أيلول 1979، بينما هي على النقيض في صنعاء: لا حظر تجوال، لا قمع، لا منع عاشوراء حتى أن لدى جماعة الحوثيين كل أسبوعين فعالية واحتفال ديني من عيد الصرخة إلى ذكرى القائد، إلى المولد النبوي لدرجة أن الرئيس فتح لهم أستاذ الثورة الرياضي.
عدا ذلك، وإضافة إليه، الحوثيون شركاء في العملية السياسية، وشهور “السمن والعسل” بين الجماعة وبين الرئيس هادي كانت حتى وقت قريب إلى درجة أنه ذهب إلى عمران وكأنه يطبّع ويبارك الأوضاع رغم إسقاط المحافظة عسكرياً من قبل جماعة الحوثي. أما دخولهم وتمثيلهم في الحكومة مسألة وقت وتفاصيل وعدد مقاعد لا أكثر.
لا مجال للمقارنة إذن ولا وجاهة ولا أسباب مقنعة لدعوة الحوثي بممارسة احتجاج دعا إليه الخميني في ظروف مختلفة كلية.
عندما سأل الصحافي الفرنسي إيريك رولو شاه إيران في مقابلة لـ«لوموند» الفرنسية -عن البيان الذي أصدره الخميني وانتقد البذخ في احتفالات مرور 2500 عام على حكم الشاهنشاهية- رد الشاه غاضبا: من هو الخميني حتى أرد على السؤال؟ بكثير من التعالي والغطرسة. أجابه رولو حسبما نقلت لطفي: هذا مجرد سؤال صحافي وأنا فقط أسألك رأيك. فقال له الشاه: أنا لن أرد على السؤال لأن الخميني ليس إيرانيا ولا فارسيا. هذا هندي (جده استقر في الهند). وأنا لا أرد على الهنود!
قارنوا كيف تعامل الشاه مع الخميني بغطرسة وإمعان في الإذلال والقهر وكيف يتعامل الرئيس هادي مع الحوثي بمنتهى اللطف و”الدلال”. لقد تدخل الرئيس هادي طوال العامين الماضين في الصراع المسلح في شمال الشمال (دماج/ حاشد/ عمران/ الجوف) وعطّل مؤسسات الدولة عن طريق اللجان الرئاسية، وعبّد الطريق أمام التقدم الحوثي بسبب خشيته من إغضاب الشاب القابع في جبال مران واحتراماً وتقديرا له.
والنتيجة أمامكم!
الحوثي يحشد..
الأصابع على الزناد..
صنعاء مهددة بالاجتياح!
والرئيس يحتمي بمجلس الأمن الدولي!
أهلا بكم في النسخة الثانية من الربيع اليمني …!
محمد العبسي، كاتب وشاعر ومدون يمني، يعيش في صنعاء ويكتب باستمرار في مدونته “في مكان ما من العالم” عن الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعيشها بلده، وهو هنا يعلق على اقتراب الحوثيين من السيطرة على العاصمة اليمنية في 5 سبتمبر – وهو ما تم بالفعل بعدها – ويهاجم محاولات تشبيه عبدالمالك الحوثي بالإمام الخميني قائد الثورة الإيرانية، فهو يرى اختلافاً جذرياً في الزمان والظروف والشخصيات المؤثرة في كلا الحالتين.
للإطلاع على النص الأصلي: