فيه مشكلتين فلسفيتين في مسألة المنع هنا، جدليتين: واحدة سياسية وواحدة فلسفية بشكل تام. وأنا هنا هدفي هو التساؤل بصوت عالي ومناقشة “النقاش” نفسه بشكل أساسي:
١- سياسيا: جملة كليشيه ولكنها منطقية – ألم تكن إحدى أسباب “خلع” الإخوان ومرسي هي، على الأقل نظريا، حماية حرية التعبير والرأي والحريات الشخصية من دولة أبوية تتحكم فيما يراه ويقوله وينتجه ويسمعه ويعيشه المجتمع، حتى لا نتحول إلى إيران أو السعودية أو ما شابه؟ فهنا: ما الفارق إذا بين منع الحكومة لهذا الفيلم تحت مسمى القيم والدين؟ وكيف كان سيكون رد فعلنا في حال أن كال ذلك في وقت الإخوان؟
٢- فلسفيا: ما هو الخط الأحمر؟ إذا قبلنا أن هذا الفيلم تعدى خطا أحمرا للأخلاقيات، السؤال هنا جدليا هو أين يقع هذا الخط، ومن يقرره؟ ماذا عن الرقص الشرقي؟ ماذا عن أفلام سامية جمال وقبلاتها هي وفريد الأطرش، وقبلات فاتن حمامة، وإغراء هند رستم، ومشاهدة الممثلين المصريين يحتسون الخمور في الأفلام والمسلسلات القديمة والجديدة ويلعبون القمار: هل هذه الأمور تتعدى الخطوط، بما أنها تمثل أمورا يرى جانب كبير من المجتمع أنها مرفوضة أخلاقيا ودينيا، ومنها أفلام تعرض على التلفاز في منتصف النهار؟ فهل نمنع كلاسيكيات السينما المصرية التي تربينا عليها ومثلا طفولتنا وطفولة أجيال قبلنا؟ ألا يرى البعض أن هذه الأفلام والرقص الشرقي، بل حتى الباليه، أشياءا لاأخلاقية، بينما ثراها البعض فنونا رائعة؟ فمن يقرر؟ ماذا عما كان مرفوضا في الماضي ثم تقبله المجتمع بشكل أوسع الآن؟ ماذا عن السباب؟ ما هو المقبول والمرفوض منه في الأفلام؟ ألم يكن مصطلح “إبن كلب” مصطلحا مرفوضا تماما ثم أصبح عاديا بنسبة كبيرة في التليفزيون والسينما وحتى المجتمع بدرجة كبيرة؟ وإذا تم قبول عرض فيلم “نوح” تحت مسمى حرية التعبير والدولة المدنية بالرغم من رفض الأزهر والبعض لذلك، فأين تنتهي تلك الحرية؟
فهل أنت مستعد ومتقبل لكل تبعيات رؤيتك ونظرتك في منع أو قبول عرض أعمال فنية أو غيرها؟
٢-أ: إستمرارا للنقطة السابقة، فهناك نموذجين. نموذج دولة أبوية، وفي ذلك النموذج الأول أنت تخاطر بأن تتحول إلى كوريا الشمالية أو إيران وأن الدولة تبدأ في التحكم بشكل أوسع فأوسع في تحكمها في المجتمع تحت مسميات الحفاظ على القيم والمجتمع والدولة والدين، ولكنك على الأقل ربما ترى أنك تحمي المجتمع من شرور أفكار وقيم منحلة ما. وهناك نموذج الدولة المحايدة (بدرجة ما أو أخرى) التي تترك الأمور دون تحكم حقيقي ولكن تخاطر بقدر مما يره البعض إنحلالا، ولكنه تراه مقبولا للغاية كثمنا للدفاع عن حرية الرأي والتعبير وعدم إضاعتهما من قبل الدولة المتسلطة. فأيهما من حيث المبدأ تختار؟
٣- نقطة إضافية: من أكثر الأشياء المقلقة في هذه الجدل هو كم الناس التي وصل إليها معلومات مخطئة عن الفيلم، وبنوا عليها أراءا كذلك ذون رؤية الفيلم. وهذه من أكبر مشاكل البلد منذ إندلاع الثورة، تناقل الأراء والمعلومات المنقوصة والمغلوطة، ثم بناء أراء عليها، وبعضها أراء عنيفة.
لست هنا بصدد الدفاع عن الفيلم على إطلاق. أنا أستغل الفيلم كمثال لطرح جدل حقيقي في مصر عن الحريات، وبخاصة تحت مسمى الدولة المدنية والتخلص من “أعداء الحرية” وغيرها من الشعارا.. أنا معني بالأساس بطرح الجدليات المتعلقة بالمنع والحريات،. كما قلت في البداية: مناقشة “النقاش” نفسه.
وأنا في المطار وقدامي ساعة فاضية وقاعد في كافيه قدام البوابة، إبتديت أفكر أكتب خطوط عريضة لمقال عن تجربة النهوض والنمو والسلام في جنوب إفريقيا من وحي زيارتي السريعة. أثناء مداعبتي للكيبورد، كتبت عنوان للمقال فيه قدر من الألاطة الشخصية (قال يعني أنا المنفلوطي) بس هو كان فقط عنوان مبدئي، وقد كان: “كيف تنهض الأمم.”
المهم، بعد كتابة عدة سطور جه الشاي بتاعي وملقيتش قدامي سكر. جيت أخد سكر من اللي قاعد جنبي، فلقيته شخص في الثلاثينيات أو أكبر قليلا بيتفرج على فيلم “إزاي تخلي البنات تحبك” على التابلت بتاعه في إنهماك وإنغماس شديدين، في مشهد يجمع سمية الخشاب وأبطال أخرين، وإداني السكر في حزن شديد إنه إتعطل عن متابعة المشهد. بعد مشاهدتي للشاتتين جنب بعض في عرض موازي ل “كيف تنهض الأمم” و”إزاي تخلي البنات تحبك” ومدى إهتمام الشخص بشكل تام، قفلت اللابتوب يتاعي بروح رياضية وتقبل للواقع، وروحت جبت حاجة حلوة ومسكرة ومليانة بالسعرات الحرارية عشان أواسي روحي، ونمت نص ساعة قبل ما أروح الطيارة.
وإن شاء الله مقالي الجاي هيكون عن “عشر نصائح للحفاظ على خصر نحيف.”
كلام متوقع ومكتوب بصيغة تقليدية وكليشيه حبتين، بس من جنوب أفريقيا:
جنوب أفريقيا بلد متقدمة بشكل كبير. كيب تاون بلد نظيفة. فيها طبيعة وحداثة في نفس الوقت. منظمة. الناس محترمة. بالليل يمكن فيه شوية قلق لو إنت ماشي في شوارع فاضية، بس غير كده البلد أمان جدا. الناس بشكل عام عندها فخر إنها من البلد دي. مفيش دروس تاريخ ورغي من اللي تكلمهم عن إن البلد دي أم الدنيا أو أهم إقتصاد إفريقي (هي فعلا أكبر إقتصاد إفريقي، وراها نيجيريا بالأساس بسبب البترول). إقتصادهم، بحسب واحدة من طرق الحساب، مرة ونص إقتصاد مصر حجما، وعدد سكانهم نصف عدد سكان مصر. البلد دي عانت من الفصل العنصري اللي قسم المجتمع لفترة طويلة. واحد من العرق الأبيض قال لي حرفيا: “عارف لو مكانش أجدادنا وأهالينا عنصريين طول السنين دي، تخيل كانت بلدنا فين دلوقتي من حيث التقدم أكثر وأكثر.” المجتمع تصالح وإتفق على أسس العيش المشترك والتعامل مع الماضي الأليم ومحاسبة من أخطئ في شيء والمضي قدما، حتى ولو لسه في جدل على بعض من تلك المحاسبات. واحد تاني بيقول لي “بلدنا حلوة أوي. عندنا مشكلة بطالة في بعض الأماكن، بس البلد ككل ماشية لقدام على الأقل.” قالها بمنتهى الهدوء، وقعدت أحسده.
فيه ١١ لغة رسمية، فيه أعراق مختلفة، ديانات كتير، بس البلد بتاعة الناس كلها. دولة بتحترم كل الديانات اللي فيها، ومركزة في التنمية بخليط من السوق الحر مع سياسات إجتماعية ودور للدولة في تقديم ضمانات إجتماعية وغيرها من الخدمات. فيه إنتخابات محلية في المكان اللي أنا فيه. قبل ما تسمع إعلان في الراديو من واحد من الأحزاب أو المرشحين فيه حوالي ٧ -١٠ ثواني تنويه رسمي عن القوانين اللي الإعلان ده بيتبعها واللي إتبعتها كذلك القناة لعدم التحيز.
والله الروشتة مش معقدة. كل الناس عملتها وطلعت قدام. وإحنا لسه قاعدين بنضيع وقت في أساسيات وفي حوارات سابها العالم من سنين، وفي بعض الأمور بندفع البلد إلى الخلف.
لك الله يا مصر.
عندما تقرأ بالأساس ما يقرأه الناس، وتسمع بالأساس ما تسمعه الناس، وتشاهد بالأساس ما يشاهده الناس، فلن تفكر سوى فيما يفكر فيه الناس، ولن تكون سوى نسخة مكررة من بقية الناس.
إنه عالم يحكمه الرجال وتنقصه الرجولة.
هو فيه شيء يمنع إن الشيخ يدعو بشفاء مرضى كل الناس من كل الأديان بدل من الدعاء لمرضى المسلمين بس؟ سؤال تبادر لذهني يوم الجمعة الماضية وتذكرته دلوقتي.
باسم يوسف جدع
٢٥ يناير. يمكن “ثوار” كتير لم يكونوا أفضل البشر أو اذكاهم أو احسنهم في تمثيل قضيتهم والدفاع عنها، يمكن “جماعة” إختطفت الثورة والبلد لفترة، يمكن ناس كتير “إنتفعت” واكلت عيش على إسم الثورة وبقوا نجوم وبقوا منتفعين أكثر من كونهم مناضلين مثلا، ويمكن البلد تخبطت بعد الثورة والشعب بفاصئله ونخبه فشل من بعد فبراير 2011 في التوحد على مصلحة البلد والبحث عن المشترك. بس ثورة يناير تزال تمثل بالنسبة لي أحلى ما فينا. ناس نزلت عايزين بلد من غير فساد، أو ظلم، أو تعذيب، أو قمع، بلد مفيهاش سلطان مخيف فوق الشعب، بلد فيها حريات وكرامة، سيادة قانون، عدالة إجتماعية، وأمل. إكره الثوار لو حبيت، إكره رجال السياسة، إكره اللي حصل في البلد بعدها، بس الثورة تظل فكرة عظيمة، مكانتش ثورة مرشد ولا ثورة شخص ولا ثورة فصيل أو حزب. كانت ثورة شعب لنفسه ولبلده.
راجل ألماني عنده ٨٨ سنة، ستتم محاكمته هذه الأيام عشان جرائم قتل جماعي شارك في إرتكابها أيام النازية سنة ١٩٤٤. العدالة تاتي، ولو متأخرة.
إحنا ممكن نختلف في كل شيء، بس ممكن نتفق تقريبا على شيء واحد: كلنا تعبانين ومرهقين نفسيا بشكل غير عادي، ومبقيناش الشخص “الطبيعي” بتاع زمان بعد السنتين ونص اللي فاتوا.
طبعا لسه ممكن كل ده يصنع مننا بشر أقوى وأفضل وأعمق وأكثر حكمة لو نجحنا في عبوره في نهاية المطاف، بس ده لسه مش دلوقتي.
وانا في أمريكا إتصل بنا صديق مصري يطمن عليا. فكرني إنه كان عايش فترة في أمريكا بس إختار في الآخر إنه يرجع مصر بالرغم من عدم شعوره بالغربة في أمريكا وبالرغم من العروض المبهرة والمغرية ليه إنه يعيش ويكمل شغل هناك. سألته:
– إيه اللي رجعك مصر؟ حب البلد؟ الإنتماء؟ الناس اللي بتحبهم؟ عشان تكون قريب من عيلتك وصحابك وجيرانك وذكرياتك؟ إنك نفسك تبني بلدك؟
رد عليا بكلمة واحدة حاسمة.
– الشطافة.