نشرت المصري اليوم قبل بضع ساعات خبرا عنوانه إحراق 36 كتابًا تروج لـ«الإخوان» بمكتبة مصر العامة بالغردقة بتوقيع صحفي اسمه محمد سليمان. ومصحوبا بصورة موحية لمرسي الغاضب. ونص الخبر يقول:
“قامت لجنة من الشؤون القانونية بالبحر الأحمر، بالتنسيق مع عدد من الأجهزة الأمنية، بإعدام عدد من «الكتب الإخوانية»، من خلال حرقها بعد ما تم اكتشافها ضمن محتويات بمكتبة مصر العامة بالغردقة، والتي تم منحها للمكتبة خلال حكم الرئيس المعزول محمد مرسي.
وأكد مصدر أمني أن من بين الكتب التي تم إحراقها كتب لشرح طرق تصنيع القنابل، وأخرى للإشادة برئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه، واعتباره مثالاً للحاكم الرشيد، وكتب عن «الإخوان» تُشبّه مؤسس الجماعة «حسن البنا» بالرسول، بعنوان «قرآن يمشى على الأرض»، وكتاب «كيف تصنع قنبلة»، تأليف أيمن فايد، و«الإخوان في حكم مصر»، و«التجربة التركية»، و«حسن الترابى». وأضاف المصدر أن إجمالي عدد تلك الكتب التي تم حرقها يصل إلى 36 كتابًا.
انتهي الخبر، لكن لا تنتهي الأسئلة التي يطرحها؛ فنح مع صيغته هذه نقف إزاء عدوان مزدوج على حرية التعبير: من جهة فاعليه جرى اقتراف جريمة المصادرة، والادعاء الفارغ بأنها قانونية وضرورية في مكتبة عامة، ومن جهة بتمربره على حاله هذه دون طرح أسئلة بديهية تخص جريمة العدوان على حرية التعبير عبر جريدة المفروض فيها أنها مستقلة ومهنية ولها قيم تجافي الاحتفاء بالمصادرة الفكرية وليس من شأنها أن تجعلها أمرا طبيعيا وقانونيا.
نفهم أن اقتناء الكتب هو شأن المكتبات وعملها وليس مصادرتها من أي جهة. وليس للجانها القانونية ولا لمؤسسات الأمن العدوان على حقنا الدستوري في المعرفة وهو حقأصيل يلغي أي سلطة لمصادرة النصوص.
لكن خبر المصري اليوم بصيغته المجهلة هذه يغض ببساطة الطرف عن مثل هذه الأفعال التي تجاوزتها الأمم والتي لا سند لها عندنا سوى نزوع سلطوي لدى الموظفين يعكس حال التهروء الذي اصاب المؤسسة الثقافية. والخبر بحياديته الظاهرة يعامل الكلام الأمني بقدسية، فلا يناقش لماذا تقترف في مؤسسة المفروض جريمة كهذه، دورها نشر المعرفة. كيف تمنع المعرفة بخطوات موظفين، وباجراءات لا تعززها أحكام ولا قوانين ناهيك عن فهم سليم للحريات والحقوق.والخبر على صغره حافل بالكوارث ويعج بالأسئلة التي يجب طرحها على المصري اليوم وعلى أي صحيفة تورد مثل هذه الأخبار:
فهو من جهة لا يوضح أي انعكاس لسياسة تحريرية تقوم على الانحياز لحرية التعبير، فيما أن الجريدة لا تمل تصرح بها وتطنطن من آن لآخر، بل وأدرجت التزامها بها في مذكرات قانونية قدمت خلال محاكمات طالت صحفيين فيها ومسئولين عنها قبل بضعة شهور، فلماذا هذا النكوص؟كان من غير المفهوم أن الصحفي الهمام لا يطرح أي أسئلة موضوعية حتما سيسألها صحفي مبتدئ يفهم معنى الصحافة، فعزز بتبنيه الصياغة الأمنية خطاب الفزع والتجهيل الذي تتبناه جهات التضييق المادي والثقافي؛
قد كان حريا بالأستاذ محمد سليمان (ومعه بلا شك رئيس التحرير ومسؤول الأخبار في الجريدة) أن يحترم القارئ ويهذب الكلام بما يليق باعتباره خبرا ولا يأخذه للمطبعة على عواهنه الأمنية نقلا عن نص بيان ينضح بالتجهيل الأمني. القراء مع هذه النوعية من الأخبار – وأنا منهم – سيسألون سؤالا مشروعا: لماذا تجادل المصري اليوم أنه من حقنا أن نعرف مواضع التهديد في العناوين القليلة التي أوردت كنموذج لهذه المحروقات التي تعامل الصحفي بحياد مع حرقها والتي قال لنا أنها خطر على عقولنا؟
وهل التهويل حول قيمة القضية بإيراد التنسيق السيادي عالي المستوى (والمستغرب في الحقيقة) بين لجنة “قانونية” و”عدد” من الأجهزة الأمنية امر طبيعي عند المصري اليوم؟ أليس فيه شيء من الدعاية الرخيصة التي يمكن أن نغض الطرف عنه في بيان للداخلية فهؤلاء لا تحركهم نوازع احترام حرية التعبير، وهم ألد أعدائها، لكن ما هي قيمته بحاله هذه للصحيفة وللقارئ؟
ألا تضع مثل هذه الصياغات مصداقية الصحيفة على المحك، وتفتح الباب أمام الظانين بأنها مجرد بوق أمني؟التدقيق في الأخبار التي قد تعزز خطاب التفزيع الأمني ضرورة واجبة على أي مؤسسة صحفية ترفع شعارات الاستقلال والمهنية.
علينا أن نؤمن أنه لم يعد يكفي لتمرير خبر كهذا التذرع بدقة الحال التي نمر بها، أو تعاظم تهديدات على الامن القومي، أو وجود صراع سياسي داخلي حاد ملئ بالدعايات الرخيصة التي تمس الحريات. التدقيق والمراجعة وطرح الأسئلة المنطقية التي تعكس القيم التحريرية أمر مهم، فثمة ضرورة للجم الرغبة الأمنية الجامحة في تضخيم أدوراها وحجب قدرتنا على مساءلتها. على الجريدة أن تدعم مساءلة الأجهزة الأمنية ولا تستر عوار ممارساتها.
أليس من جملة دعم الحق في المعرفة الذي تتوخاه الجريدة أن تدعم دور القارئ كمراقب للشأن العام، وتوعيه؛ وهي مراقبة تقوم على أن مسئولية الحكومة هي حماية الحرية والدفاع عن مساحتها بذات القدر الذي تقينا فيه من الجريمة وتعزز أمننا من المخاطر، وليس من بين أدوات أجهزتها بحال القيام بمصادرات فكرية.
لماذا علينا القبول بما قبل به الأستاذ سليمان ونتعامل بأريحية مع مسألة أن الصراع السياسي الراهن مهما بلغت حدته وكون الإعلام جزء من صدام فكري وآيديولوجي واقع، يبرر حرق الكتب، ويبرر ممارسات التطهير الثقافي.
هل نحن بحاجة للتذكير بأن مثل هذا الفعل الغبي قد تجاوزه العالم وعافته الدنيا. ربما أتفهم أن المكتبة من حقها اختيار الكتب التي ترى أولوية اقتنائها، فبمواردها المحدودة تبرر أنها لا تستطيع اقتناء كل المعارف وباعثها في ذلك تقدير أنها مهمة لقارئها، لكن لا أفهم حقها المزعوم في المصادرة. لا أفهم على الإطلاق أن تتحول معياريتها في الانتقاء لوصاية على الفكر، وتحديد لماهية ما يتوجب على مرتادها معرفته. والفارق ههنا كبير.
على المصري اليوم أن تبادر بالاعتذار لقارئها ولو كنت في موضع رئيس التحرير – الذي أقدر عظم مسئولياته – لاعتذرت لقارئي على ثلاثة أوجه:
– اعتذار واضح عن إيراد الخبر بصيغة تجافي حرية التعبير وضرورات الدفاع عنها، وتعهد بعدم تكرار ذلك؛
– تعويض القارئ بمقالات وتحقيقات تدحض الأسانيد القانونية المدعاة وتبين خطيئة المصادرة وأنها ممارسة تنال من فكرنا وتنال من حرية الصحافة كذلك؛
– وأخيرا بالإسراع بالتنمية المهنية لصحفييها، خصوصا من تورط منهم في صياغ مثل هذه الأخبار، على نحو يلغي تبنيهم مثل هذه الصياغات ويعزز فهمهم لمعنى حرية التعبير وضرورة الانحياز المبدئي له.
كتب المدون برماليون البجماوي هذه التدوينة في 9 أغسطس، لينتقد واقعة إحراق إدارة مكتبة حكومية عامة لكتب تقول أنها تحمل أفكاراً إخوانية.
للإطلاع على النص الأصلي: