مساء يوم حادث تفجير مبنى مديرية الأمن بالمنصورة، قادتني الصدفة اللعينة لمشاهدة أحمد موسى على قناة التحرير، وهو يقف بجوار المبنى الذي تعرَّض لانفجار عنيف دمّر نصفه أو كاد.. فجأة، وبعد مقدمة طويلة عن الإخوان الشياطين الإرهابيين الملاعين الفتّاكين الذن فجّروا مديرية الأمن، انخرط الأستاذ أحمد موسى في وصلة بكاء غريبة، بدى مفتعلاً إلى حد السخافة، صوته انتقل تدريجيا من خانة صوت الذكر الخشن إلى صوت اخر.
وبينما هو مندمج، وجدته يقول بثقة: لازم كلنا ننزل ونروح نصوت على الدستور بـ “نعم”؛ عشان ندعم الدولة في حربها على الإرهاب.
استغرق الأمر دقيقة؛ لأستوعب جيداً ما سمعت.. ما علاقة مقاومة إرهاب مسلح بالموافقة على الدستور؟ أين الرابط؟ أين العلاقة المنطقية ين الجملتين؟
دفاعاً عن المنطق، واحتراماً لآدميتي.. لا يمكنني ان أصدق هذا الهراء، والدولة التي تتخذ بوقاً إعلاميا يخاطبني بهذه اللغة، واللامنطق المفضوح، لا تستحق مني سوى السخرية، والسباب الفاحش لكل رموزها، ولهيبتها، ولمؤسساتها.
دفاعاً عن المنطق، ابصق على هذه الدولة الحقيرة يا حبيبي.
الفاشية لا يمكن أن تستمر في حكم مجتمع يمتلك بعض المنطق.
لا أتذكر أين قرأت هذه الجملة، ولكن في كل الأحوال فهى حقيقية تماماً.. الفاشية لكى تستمر في حكم أى مجتمع، لابد أن تخلق حالة من الهيستيريا الجماعية بين أفراده، تتفاوت في درجة قوتها من مجمع لآخر. هيستيريا تتولد من خطاب السلطة الحاشد لأفراد المجتمع، ضد العدو المشترك الكبير، الذي تتمركز شرعية السلطة الفاشية في محاربته. استمرار الفاشية لابد له من استمرار العدو المشترك، انتفاء وجود العدو يعني انتفاء وجود الفاشية، زوالها؛ لعدم حاجة المجتمع لوجودها بعد ذلك.
خطاب السلطة الهيستيري في مصر وصل لذروته في الأيام الأخيرة، فمن صرخة الإعلامي محمد الغيطي في برنامجه:” أنا عندي رواية تثبت أن الإخوان المسلمين هم سباب ضياع الأندلس من المسلمين“، إلى محاكمة أبلة فاهيتا بتهمة التخابر مع جهات أجنبية والسعى لهدم الدولة.
يقول سبايدر أو “الرجل العنكبوتي”، كما تطلق عليه “أبلة فاهيتا”، رداً على أسئلة خيري رمضان: “الإعلان الذي تقدمتُ به للنيابة من المفترض أن يبدأ بشجرة كريسماس، لكن تم وضع شجرة صبار بدلاً منها، وإلى جوارها ما يشبه القنبلة، وتوجد كعكة في الإعلان، وهو دليل على أن الإخوان سيقيمون حفلة على المصريين في رأس السنة، كما أن هناك حواراً طويلاً لا علاقة له بالإعلان، مثل ديلسيبس وطقم الأسنان الذي تجمد في الكوب، وهو يرمز إلى تجميد أموال الإخوان، وكلمة ماما لأبلة فاهيتا هي مصر، وبنت هي إسرائيل، أما البالطو البيج فيرمز للجيش المصري، والغرض من الإعلان هو إرسال كودات سرية من المخابرات الإسرائيلية إلى عملائها في مصر”!
واقع أكثر إثارة للضحك من نكات “أبلة فاهيتا”، الأرملة التي تناجي المرحوم وتتبنى اللغة الدراجة لطبقة الموظفات المصريات بعد سن الخمسين. “فاهيتا” التي ظهرت على الشاشة بكامل أناقتها وعلى رأسها “HAPPY NEW YEAR” في شكل تاج، ومازحت رمضان بأن “الأرملة الحلوة دايماً مطموع فيها”، وردّت على سبايدر بأنه من الأفضل إنفاق هذا الوقت في ما ينفع الناس، ولم تنسَ أن تطبّق عليه نظرية المؤامرة بالإشارة إلى أن النصف الأول من كلمة “سبايدر” يعني “الجاسوس” بالإنكليزية.. فبدت الدمية أذكى، وأطرف طبعاً، من الناشط والأجهزة التي قد تقبل بلاغه.
الواقع في مصر مرح ومثير للغثيان إلى هذه الدرجة.
“أبلة فاهيتا” تملك رداً مقتضباً وفاضحاً لهذا الواقع. ففي المناظرة بينها وبين أحمد سبايدر، ردت على تفسيره للإعلان وتهديده لها بالسجن، بكلمة واحدة: “يا سوسو!”
في بلاد العالم العاقلة، مكان أمثال أحمد سبايدر وسامح أبو العرايس هو المصحة النفسية، حيث يتلقون علاجاً مكثفاً يصلح لحالة الفصام الرهيبة التي يعانون منها، وذلك حقهم على الدولة كمواطنين أصابهم المرض، ولا شماتة في المرض، ولكن من الجنون أن يخرج المرضى في بلادنا ليحللون لنا واقعنا السياسي، وتستجيب الدولة لبلاغاتهم الفكاهية ضد عروسة قماش بتهمة التاخبر ضد الدولة.
المشكلة ليست في وجود سبايدر وأبو العرايس، المشكلة في وجود من يصدقهم بكل هذه الأعداد! المصيبة في وجود مواطنين كاملي الأهلية يعملوان في مناصب خطيرة يصدقون صيحة سبايدر في أبلة فاهيتا: هاسجنك!
لا يمكن سجن عروسة من القماش، ولا أعتقد أن الدولة افتتحت سجناً حديثا للعرائس حتى الآن، ربما يحدث هذا خلال الأيام القادمة. أنصح المعاتيه في السلطة بان يسجنوا من ابتكر شخصية أبلة فاهيتا، فإذا قبضتم على أبلة فاهيتا، قد يلجأ مصممها إلى ابتكار مماثلة لها خلال فترة قصيرة، وعندها قد تتهمون المخابرات الأمريكية باستنساخ أبلة فاهيتا بواسطة الحامض النووي. أبلة فاهيتا عروسة يا سيادة اللواء، يا سوسو!
الجنون لا يستثني المثقفين في مصر.
يتحدث الكاتب اليساري العتيد صنع الله إبراهيم عن محمد البرادعي كمتآمر، واصفاً إياه بأنه جزء من مخطط أميركي تم زرعه فى مصر. وينضم إبراهيم بذلك إلى جمال الغيطاني وسيد حجاب. وفي الوقت عينه، لا تكف سرديات توصيف “الربيع العربي”، كمؤامرة كبرى لإعادة ترتيب “الوطن العربي”، تخطط لها استخبارات الدول الغربية منذ عشر سنوات على الأقل.
درجة الهيستيريا التي وصل إليها خطاب السلطة الإعلامي وداعميها، والجنون الذي صار اعتياديا، يجعل قضية كل حر عاقل يحتفظ ببعض آدميته، بعيداً عن أى اعتبارات سياسية، وبنظرة إنسانية بحتة، هو مواجهة هذه الدولة المهترئة المضحكة المجرمة، التي لا تكتفي بجنونها، بل تروع وتقمع جميع معارضيها، في محاولة بائسة لإغلاق المجال العام على كل معارض ضد الدولة وسلطتها.
السخرية وحدها لا تكفي. السخرية تلعب دوراً لا يمكن إنكاره في تفكيك السلطة القمعية، بشكلها المضحك الحالي، والإنترنت وصفحات فيس بوك الساخرة الآن تلعب الدور الرئيسي في هذه النقطة حالياً، ولكن الاستغراق في هذه الدائرة فقط يبدو خطيراً، فالسخرية الدائمة المستمرة، من كل فعل إجرامي للسلطة، مهما اشتدت قوة قمعيته، دون السعى لردع تلك السلطة وإيقاف إجرامها الذي يطولنا جميعاً، يخلق شعوراً زائفاً بالانتصار على السلطة بالسخرية الدائمة منها فقط.
السخرية مهمة، لكنها وحدها لا تكفي.
مواجهة الدولة المجرمة المعتوهة التي تطالعنا الآن، يجعلنا ندافع عن القضايا المنطقية البسيطة، والتي يسعى الخطاب الفاشي احالي لتغييرها في عقولنا. دون التوغل في نقاشات سياسية عميقة، لندافع عن الأساسيات: لا يمكن محاكمة عروسة قماش بتهمة التخابر ضد الدولة والسعى لهدمها، الفيلة لا تطير، الإخوان لا يمكن أن يتسببوا في ضياع الأندلس من المسلمين، القطط لا تتحدث باللغة الإنجليزية، لا يمكن أن تلوم المقتول وتبرر للقاتل، السرقة فعل إجرامي يعاقب عليه أى قانون ابتكره الإنسان من الأزل، 1+1=2
حافظوا على هذه الثوابت المنطقية البسيطة، قبل أن يقنعنا الجنرال وإعلامه بعكسها قريبا، وعندها سنفقد ما تبقى من آدميتنا، وقد تنتهي حياتنا في أقفاص نتقافز كالنسانيس.
دافعوا عن المنطق، حتى لا تصير هذه الصورة واقعا منطقياً.
محاكمة أبلة فاهيتا..بوجي في الدفاع وعم شكشك القاضي.
نشر المدون أحمد مدحت هذه التدوينة في مذكرة “نوت” على صفحته بموقع فيس بوك في 3 يناير ليناقش واقعة اتهام شخصية أبلة فاهيتا بحمل شفرات تخص التجسس والإرهاب، ويدعو لعدم الاكتفاء بالسخرية، وعدم الاستهانة بإعلان التمسك بأساسيات المنطق التي قد تبدو لنا بديهية.
للإطلاع على النص الأصلي وتعليقات القراء: