رئتاى على وشك الانفجار

(1)

بعد تفجير مديرية الأمن بالمنصورة،أغلقت مديرية أمن الإسكندرية الطريق المار أمام بواباتها؛ وذلك حفاظاً على أمنها،وطبعا بلا تفكير في المعاناة التي سيلاقيها كل من تُحتِم عليه الظروف 3أن يمر منذلك الشارع، بعد أن تسببت الحواجز الخرسانية الكئيبة في زيادة الاختناق المروري،الذي لم يكن في حاجة لاستزادة، ولكن السادة لا يهتمون بهذه الأمور التافهة طبعاً.

كتل خراسانيه ضخمة تتراص جنباً إليجنب؛ لتسد الطريق أمام مديرية أمن الإسكندرية. كنت أجلس داخل الميكروباص، عليالمقعد المجاور للشباك، أحرك الزجاج قليلاً طلباً للهواء.. ضيق التنفس يعتصر صدري،قوة القبضة تزداد شيائاً فشيئاً.
يتوقف الميكروباص علي الحاجز الأمني المقام للتفتيش، الذي يحتوي على عدد كبير منالسادة الضباط والجنود، بعد أن تم وضعالكتل الخرسانية بامتداد الجزء الأيسر من الطريق، المار أمام مديرية الأمن.. إجراءات تأمنية مشددة تتبعها الشرطة للتأمين، تحمل روحاً من التنكيل بالجميع، بلا سبب منطقي واضح سوى الإذلال الجماعي، لكل من يقع تحت قبضة الدولة.

أخذت أتأمل العساكر الذين وقفواعلى جانبي الطريق، موجهين أسلحتهم الضخمة في اتجاهنا، حيث جلسنا داخل الميكروباص..ركزت بصري علي وجه أحدهم، وأخذت أنقل عيني بين فوهة البندقية المصوبة تجاهي، حيث جلست بجوار الشباك المفتوح أنظر للعساكر بينما الضابط، يتأكد من رخص السائق و يسبه دون أن يرتكب ذنباً او يبدي اعتراضاً يستحق أن يُسَب بسببه، وأوجه عيني حينها إليوجه الجندي الذي يصوب سلاحه تجاهي .. بدي لي كنسخة مموهة من “أحمد سبع الليل رضوان الفولي” في فيلم “البرئ”.
نفس النظرة الميتة التي لا تعي تماماً ما تري، الفم المفتوح قليلاً دائماً؛ لتبرز من خلفه أسنان اصفرَّ لونها؛ من قلة العناية والنظافة. نموذج مثالي لآلة قتل جاهزة دوماً لتنفيذ الأوامر، فقط ينتظر الإشارة والأمر من الباشا.

غمزني العجوز الذي يجلس بجواري؛ لينبهني، التفت إليه، لأجده يقول لي هامساً بصوت حذر:” بلاش تبصلهم كتير يا ابني؛ عشان ميشكوش فيك و ياخدوك”
التفت في اتجاه العسكري ثانية، دون أن أرد علي محذري، كنت أفكر في شىء آخر تماماً: تذكرت أجواء كمائن التفتيش، والحواجز التي يقيمها الصهاينة في فلسطين، كما شاهدتهاعبر التلفاز، وكما حكي لي أصدقائي الفلسطينيون الذين عايشوها.
اعتدلت في جلوسي، وأبعدت نظري عن صف العساكر حتى لا أستفزهم لأنظر أمامي، فواجهت عيني طفلة، أسندت رأسها على كتف أمها التي تجلس في المقعد امامي، عينان حملت قدراًكبيراً من الفزع من كل ما يحدث حولها، نظرة كانت كفيلة بالوصول لمشاعر القهر لدىَّ إلى حدها الأقصى.

رفعت يدي اليمني لأضغط بها على صدري، الذي يعتصره الألم الآن، كل ذرة هواء تتسرب داخل صدري تزيدني اختناقاً.. أشعر أن رئتاي على وشك الانفجار.

(2)
في الفترة الأخيرة، تغيَّر نمط كوابيسي إلي حد كبير.. ازداد عدد الفقرات السوداءالمعتادة، وتنوَّع البرنامج اليومي؛ حتى صار مزدحماً كغرفة التعذيب الكبرى فيمديرية الأمن.

في العرض الرئيسي، الذي أختتم بهدائما وصلة كوابيسي المعتادة، انتقلت من حلم السقوط الشهير، الذي لا ينتهي أبداًبأن أصل للأرض، إلي نمط جديد من الكوابيس: أجد نفسي أجري في شارع مزدحم بالبشر، تحجب فيه سحب الغاز المسيل للدموع الرؤية بشكل يكاد يكون نهائياً، أجري دون هدف واضح، ملامح الشارع تتطايرفي جانب الرؤيه لديَّ، حيث تقع البقعة العمياء لكل عين. ربماهو الشارع الخلفي لمديرية أمن الاسكندرية، أو هو أحد شوارع وسط المدينة، الأكيد أنه أحد الشواع التي شهدت المواجهات مع قوات الأمن.

أجري بأقصى ما أملك من قوة؛ فيزداد إحساس الاختناق الذي يلازمني طوال الحلم، ويتصاعد تدريجياً. وجوه أصدقائي الذين ماتوا عبر الثلاث سنوات الماضية تتدافع عبر ذاكرتي, بوجوه مشوهة غاضبة.

أستيقظ غارقاً في عرق بارد، وأنا أجاهد لكى أتنفس، أجمع الهواء داخل صدري بشراهة، بالرغم من الألم المتزايد، الذييؤكد إحساسي بأن رئتاى على وشك الانفجار
(3)
نزلت إلي المقهي، لأهرب من ألم ضغط رئتي الذي أصبح يلازمني.. فوجئت بصديقي يضحكبصوت مرتفع، وهو يدفع لي بهاتفه المحمول؛ لأقرأ ما كُتب علي شاشته.. “أم تبلغ عن عضوية ابنها في حركة 6 إبريل و تطرد المحامي، و النيابه توجه له تهمة الإنتماء لجماعة إرهابية”
أعدت قراءة متن الخبر ثلاث مرات، ونظرت لعنوان الموقع عدة مرات؛ لأتأكد أنه من المواقع التي لا تزوِّرالأخبار طلباً للشهرة والرواج.

لم يعد المحيط الضيق الخاص بكلمنّأ في مأمن من ضرباتهم. حتى الحيز الضيق الذي قرر البعض الاحتماء به، لم يعدآمناً بشكل كافٍ، أو يحتوي على القدر الإنساني من الجنون، الذي يمكن التعايُّشمعه.

ازداد الضغط علي رئتاي.. شعرت فيتلك اللحظات أنني سأبصق دماً.
(4)
“لقد هزمني الأخ الأكبر.. لقد جعلني نسخة منه”
منذ أن قرأت رواية “1984” لـ جورج أورويل، لم أنس أبداً تلك الجملة التي أختتم بها البطل حديثه في الرواية، التي تتناول حياة البطل في دولة الأخ الأكبر،الذي يراقبك دائماً أينما كنت، يراقب كل أفعالك، وتشرف أجهزته علي إعادة كتابة التاريخ بشكل دوري، ليطابق رؤية الأخ الأكبر الآنية، التي تتغير بتغيرالظروف.

الأخ الأكبر يمتلك التاريخ، حرفياً لا مجازاً،ولديه جهاز مختص يعيد كتابته دورياً؛ ليطابق رؤيته، صورته تطالعك في كل مكان، فيكل شارع وفي كل مبنى، حتى داخل منزلك، يراقب أفعالك و خلجات نفسك، حتي ما تهمس بهلصديقك، في مقهي منعزل عن الزحام.. لحظة انتصاره الكبري عندما يجعل المحيطين بك فيكل مكان، أهلك، أصدقائك، حبيبتك، نسخاً معدلة منه، يراقبونك، و علي استعداد تاملتسليمك إلي قوات الأخ الأكبر، إذا ما رأوا فيك خروجاً على نظامه.
الأخ الأكبر يراقبك، يتسلط علي جميع تفاصيل حياتك.. أنت لا تمتلك نفسك، حتي محيطكا لضيق ملك للأخ الأكبر، وخاضع لرقابته الدقيقة. تذكر هذا دائماً.

(5)

المشكلة الحقيقية التي تواجهني الآن، بخصوص الحياة في مصر، هى أنني مطالب بالحياة تحت سلطة دولة مشوَّهة مضحكة، تحاول أن تُقلِّد نموذج دولة الأخ الأكبر، ودائماً ما تخرج محاولاتها تلك، رغم إجرامها وانحطاطها، إلى صورة كاريكاتورية مضحكة.

دولة الأخ الأكبرعلى الأقل كانت تمتلك أجهزة نظامية حقيقية، شديدة الانضباط، صارمة في نظامها، قادرة على فرض النظام. كانت دولةتستحق لقب الدولة القمعية الشمولية الحديدية، تستحق أن أشعر تحت سلطة حكمها بوطأة القهر، الذي أعانيه حالياً تحت سلطة دولة رثة مضحكة، تفرغت أجهزتها الأمنية والقضائية لحل الشفرات التي تحويها الإعلانات التجارية.

دولتنا الحالية، والتي بدأت ملامح نظامها الجديدفي التشكُّل، تريد أن تكون شمولية قمعية، رغم هشاشتها وتعفُّن اجهزتها، واضمحلال قدرتها حتى على فرض قمع منظم ممنهج، بينما تعتمد في قمعها على تفكك القوى المعارضةلها، وووسائل إعلامية تعمل على تدجين الجماهير في اتجاهين لا ثالث لهما:”ضرورة التوحد خلف الدولة في حربها على الإرهاب”، وبالضرورة لكى يتحقق ذلك؛ يجب أن نقبل بكل جرائم أجهزتها ونتغاضى عنها، ونَصِم كل من يطالب بمحسبة المجرم بأنه خائن عميل، و”الحشد في انتظار المخلِّص”، أن نقف صفوفا وطوابير في الشوارع، ننتظر ظهور المهدي المنتظر، الذَكَر الأبدي، متجدد الخصوبة، الذي لا تنضب فحولته، والذي سيستطيع أن يروي ظمأ ملايين المتعطشين.

(6)

ما أدركه جيداً، أنني لن أموت في صمت، وسأفعل كل ما بقدرتي لأزعجكم، إذا ما كانت الدولة الآن تريد موتي، كعقاب لي ولأمثالي على خيانتنا. نعم، انا أنتمي لجيل الشباب الخائن؛ الذي اتهموه بكل شىء؛لأنه قاطع عملية الاستفتاء على دستورهم.

أعدكم أنني قبل أن تنفجر رئتاي، وأبصق دماً، أن آخر بصقة دم مسمم ستكون من نصيب صورة الأخ الأكبر؛ لتتذكروا دائماًأن لكل دولة يحكمها أخٌ أكبر، لحظة سقوط. ولكم في جمعة الغضب أسوةٌ حسنة، لو كنتم تعقلون. لو كنتم بقى!

كتب المدون أحمد مدحت هذه التدوينة على صفحته بموقع فيس بوك في 25 يناير متحدثاً عن حالة القهر التي يشعر بها من مختلف جوانب الظلم في مصر، ومع ذلك يؤكد أنه سيستمر في المقاومة.

لقراءة النص الأصلي:

http://on.fb.me/1h7JTcF

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *