في مجمل الخطاب الراهن حول “السيسي رئيسا” ترى ملمحين مهمين من العدوان على العقل، يشبهان ما كان يفعله الإخوان مع مرسي (وبشكل متطرف مع ترشيح الشاطر)، أولهما الإحالة لمجهول، وثانيهما اللامعقولية السياسية.
الإحالة لمجهول بجعل الثقة في السياسي محلها أساطير تنسج من حوله، وليس استنادا إلى قدرات مشهودة تكافئ معايير منطقية ومعقولة للحكم على قدرة الفرد على الاضطلاع بمهام المنصب، ويمكن للناخب في هديها القيام بالفرز والترجيح. وبهذه الإحالة لمجهول، التي تنشئها ممارسات الأسطرة، يصير الاختيار العام لا عقلاني، ويصبح نتاجا لهذا التضخيم للادعاء بالقدرة الاستثنائية للمختار، وليس لتحكيم العقل في رؤاه ومهارته.
الرشد السياسي يقتضي من الشخص القائم بالانتخاب أن يسند رأيه على دليل عملي أو مراجعة تقييمية لخطة عمل أو رؤية أو فلسفة للحكم، بما يشكل لديه قناعة حقيقية بقدرة من يختاره على الإدارة السياسية. الإدارة السياسة هي موضوع الرئاسة، وحسن القيام بها هو مهمة شاغل الكرسي.
أما الإحالة لمجهول فهي من ضروب تزييف الوعي، وفي قلب ممارسات المخاتلة والخداع الجماهيري. خداع يتطلب اختلاق صورة البطل في عيون الناس، وانتاج مبررات الاستثناء والضرورة والإلحاح، في مقابل قمع كل حديث مناقض لها، سواء عن معياريات يمكن بموجبها ترجيح هذا عن ذاك لشغل منصب الإدارة الأعلى في البلاد، أو الإشارة لتعدد البدائل التنافسية أمام الناس في مضمار التنافس على كرسي الرئاسة.
لا غرو – مع حالة المخاتلة هذه – أن تنشط آلة الخداع بكل طاقتها (التي يضخها فيها مالكوها من طبقة الهيمنة على الثروة والسلطة) في تصوير المستبد الجديد بأنه المنقذ، مالك مفاتيح الحلول، والملهم، صاحب الرؤى الما ورائية، نبي عصره، ويد الله، ووكيله، وروح التاريخ، وتجسد إرادة الأمة، إلى آخر هذه السلسلة من الادعاءات التي تشير تجارب الأمم المتخلفة في باب الحريات والحقوق أن هوسا من مثل هذا دائما ما شغلها عن صحة التفكير، وحسن الاختيار، وألجأها لعتاة ومجرمين وسفاحين وفسدة ومختلين، ينحدرون بالبلاد ويذيقون الويل لأهلها.
من جهة ثانية، تجد أصل اللامعقولية السياسية، تلك التي تصيب غالب الطروحات الراهنة حول السيسي، ملخصة في رؤية بالغة التطرف حول الأمن، ومعناه، ومدى إلحاحه، وكيفية وصور توفيره. ويشكل الانطلاق من قضية الأمن في مصر، وتغليبها على كل قضية، المقدمة المنطقية لاختلاق صورة البطل ونشر الشعور بحالة الضرورة والإلحاح المتعلقين بحفظ الحياة والوجود، ليكونا سندا لاختياره، وسببا في غلق أي معنى للتنافس ضده.
ويصير الأمر مأساويا حين يتلخص منطق الاختيار في ثنائية جامدة مؤداها إما اختيار البطل أو الموت. استحضار الموت والخوف أمر غائي، ومطلوب لما له من قدرة على إعاقة التفكير السياسي الرشيد، إذ يحيل لحال الاستثناء الدائم والخيار الهوبزي، في صنع الأمة والدولة.
اللامعقولية السياسية مقدمة لوقف آلة السياسة الرشيدة، وطابعها التنافسي، ونهج المداولة الحرة فيها، ذلك الذي يدور حول السياسات والبرامج، والجدل حول الأولويات، وليس حول الهوية والوجود وحواديت الأساطير القديمة. يوضع كل هذا في آجندة سياسية ذات بند وحيد، وأولوية مطلقة هي الأمن. وليس بمستغرب أنك حين تقوم بتحليل مدقق وتفكيك لما يعنيه أصحاب الرؤية الأمنية المتطرفة بالأمن، ستجد نفسك في مواجهة تصور طبقي بحت، شديد الضيق، وبالغ الحدية، لا يرى حجم التهديدات الحقيقية على وجود الناس جميعهم، حيث يقصر رؤاه على ما يهدد طبقة السيطرة ودوائر الاستغلال، ويقدم برنامجا أمنيا يحمي هذه المصالح والدوائر فقط، تاركا للإعلام وآلة المخاتلة دور تلقيم الأفواه لقيمات الوهم، واستخدام التفزيع والترهيب لكبح كل تطلع لأمان وطمأنينة تصيب الجميع، لا قلة مهيمنة.
الإحالة للمجهول واللامعقولية السياسية تنتهي بقتل السياسة وفتح الباب أمام الخرافة السياسية وهدر الوعي لصالح الرضوخ والاستكانة في الأسر والقبول بالقيود.
ولأهل الضرورة والاستثناء السيسوي أقول: أهلا بكم في عالم الأساطير .
كتب الناشط برمالي ونالبجماوي هذه التدوينة على صفحته بموقع فيسبوك،حيث ينتقد تشابه الإخوان والنظام الحالي فيتميز كلاهما بما يسميه “اللامعقولية السياسية” و “الإحالة للمجهول“.
للإطلاع على النص الأصلي: