صور الجنرالات بين القصر وبين متحف التعذيب

يخترق طريق 25 مايو السريع، المرفوع على أعمدة خرسانية، العاصمة الأرجنتينية بيونس أيريس، من أقصاها لأقصاها، مثل كوبري اكتوبر في القاهرة ولكنه أفضل كثيراً من حيث الأنسياب المروري، صور الجنرالات بين القصر وبين متحف التعذيبوجودة التصميم والتنفيذ والإضاءة، والأهم فيما يوجد تحته.

لا أريد أن أكتب عن عبث وعشوائية ما يدعى بالتصميمات الهندسية في مصر، ولكن عن متحف في الهواء الطلق في قلب بيونس أيريس (ويعني اسمها مدينة الهواء العليل).

 تحت طريق أو كوبري  25 مايو، وتحديدا عند تقاطعه مع شارع باسيو كولون يوجد هذا المتحف، وهو في الحقيقة نصب تذكاري لبعض آلاف المعارضين السياسيين، الذين اختفوا في سنوات الدكتاتورية العسكرية الأرجنتينية. على تل من التراب الأسود ينحدر قليلا لأعلى حتى يلامس باطن الجسر، تتراص حجارة بيضاء لترسم حدود جسد هائل ممدد على الأرض، وامام كل حجر شاهد ابيض يحمل اسماً.

إنها اسماء من لقوا حتفهم تعذيباً في غرف مركز تحقيق كان يختفي تحت الارض في الوحدة العسكرية، التي كانت قائمة في هذا المكان، قبل بناء الجسر كجزء من طريق 25 مايو. ليست فقط اسماء الضحايا والشهداء هي من يجري تخليدها في بيونس ايريس، بل أيضا أسماء الزبانية والقتلة من كبار القادة لصغار الجنود: من قادوا ومن خططوا، من شاركوا ومن نفذوا، من شاهدوا ولم يتحركوا لمنع هذا العار من الوقوع يوميا: عار تعذيب أو إمتهان أو قتل الأخرين بسبب معارضتهم السياسية. وليس كل التخليد تكريماً!

 سيأتي يوم مثل هذا في دولنا العربية (من تبدلت انظمتها هذا العام ومن تنتظر) لتسجيل وتوثيق ونشر الممارسات السادية من أعمال التعذيب والقتل والترويع التي تورطت فيها اجهزة الأمن، جيوشاً وشرطة، أو غيرهم. سيأتي يوم لمن ذبح مغنياً ثائراً واستئصل حنجرته، يوم لمن انتهك كرامة فتيات وعراهن بدعوى الكشف عن عذريتهن، يوم لمن ادخل عصاه في مؤخرة انسان مثله، ويوم لمن وضع حذائه على رأس محام او متظاهر …

سيأتي هذا اليوم ولن يكون هذا الفضح بغرض المحاسبة الجنائية فحسب ولكن أيضاً من أجل توثيق الحقيقة واجراء اصلاحات شاملة في المؤسسات والممارسات تكفل لنا عدم الوقوع في قبضة أي نظام يدعي انه يرهب ويعذب بعضنا بغرض حماية الجميع، أو من أجل مصلحة الوطن المزعومة التي هي دائماً فوق الجميع عدا الزبانية وكبار اللصوص والجنرالات.

وعندما تفتح الملفات وتجرى التحقيقات عن طريق لجان مستقلة سيكون من المهم تصميم وبناء متاحف ونصب تذكارية تخلد ما جرى، كي لا ننسى. للذاكرة والتذكر أهمية تضارع إصدار احكام قضائية رادعة ضد الزبانية. الذكري تنفع المؤمنين والمواطنين وتعصمهم وتعصمنا من تكرار الإخطاء الفادحة، إنها إعتراف علني بما حدث ووعد على العلن بعدم تكراره، ولذا فان انشاء متحف لأمن الدولة المصرية في مكاتب أمن الدولة في لاظوغلي بالقاهرة، مثلاً، سيكون بمثابة وعد علني بأننا لن نسمح مرة أخرى بأن يقبع  أكثر من عشرين الف معتقل في سجون مصر سنوات دون محاكمة عادلة، واننا لن نلجأ للإعتقال والتعذيب بسبب كسل وفشل اجهزة الأمن في القيام بملاحقة قانونية حقة بناء على الأدلة، وأننا لن نسوق 12 الف مدني لمحاكمة عسكرية في الأشهر القليلة التالية لثورة 25 يناير حتى أوقفها الضغط الشعبي، واننا لن نترك مسؤولاً امنياً (جيش او شرطة) يتجاوز القانون لأنه يرى ان احترام القانون يحط من قدر المؤسسة التي ينتمي إليها. الحقيقة عن طريق لجان قضائية مستقلة للحقيقة والمصالحة، ودفع تعويضات مالية للضحايا، وإقامة متاحف ونصب تذكارية تعلمنا وتذكرنا، وتغيير هياكل وقيم المؤسسة الأمنية هي كلها مجتمعة الحل الأمثل لتكريس كرامة الإنسان في العالم العربي. لن تتحقق هذه الكرامة عن طريق محاكمات جنائية قاصرة يشوبها العوار مثلما نرى الآن.

لدينا تاريخ مشين ومخجل جري فيه امتهان وانتهاك كرامة وقتل مئات الألاف من المصريين والتوانسة والليبيين واليمنيين و… و…. في وطننا السعيد من المحيط إلى الخليج، ونحتاج لمعرفة ما حدث.

يجب ان نعرف ما حدث في عصر مبارك وادى لاعتقال وتعذيب وقتل والتنكيل بمئات الألاف من المواطنين وليس فقط ملابسات مصرع 800 شهيد في مصر من 25 يناير حتى 11 فبراير. نريد الحقيقة فيما حدث منذ اكتوبر 1981 وحتى سقوط اجزاء من النظام بعد ذلك بثلاثين عاماً.

مفهوم لجان التحقيق والمصالحة جديد نسبياً وبدأ في امريكا اللاتينية في الثمانينيات مع التحول نحو الديمقراطية. وحتى الآن قامت عشرين لجنة وكان أولها في الأرجنتين. وتتيح اللجان المجال أمام ضحايا الانتهاكات، أو عائلاتهم، والشهود، للحديث بحرية وتحت الحماية عما حدث. وتقوم اللجان بالتحقيق في كل الادعاءات، ومن ثم وضع سجل واضح قدر الامكان يروي ما جرى، ويمكن استعماله في المحاكم الجنائية فيما بعد.

الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان ليست مجرد جريمة جنائية ارتكبها فرد ويتم معاقبته عليها، إنها نتيجة سياسات وهياكل وقيم تسكن قلب النظام الحاكم ومن اجل التخلص منها يجب التعامل معها بجدية وبشكل جذري حيث ان الهدف ليس القصاص والعدل لاشخاص بعينهم فقط بل القضاء على اخطبوط الانتهاك ونزع سم العنف من المجتمع الذي تحول جزء منه لزبانية تسوم بقية المجتمع سوء العذاب. ضباط وجنود ومخبرين امن الدولة هم جيراننا واقربائنا ومصريون مثلنا وهناك حاجة للعقاب ولكن هناك ضرورة للفهم والمصالحة إيضاً.

في الأرجنتين  باشرت لجنة الحقيقة المستقلة عملها في ديسمبر 1983 بعد رحيل النظام العسكري (وهو رحيل محتوم سواء استمر الحكم العسكري ست سنوات ام ستة عقود).

ونقبت اللجنة في الاف المستندات واستمعت لآلاف الشهود على مدى تسعة أشهر لتحقق في مخالفات النظام العسكري الدكتاتوري الذي ساد البلاد بين عامي 1976 و1983. في هذه السنوات السبع أسفرت المواجهات بين النظام والمعارضة عن إختفاء منهجي وتعذيب وقتل آلاف الأشخاص. وتحت تأثير الأزمة الإقتصادية والهزيمة المريرة في حرب الفوكلاند أضطر نظام الجنرال رينالدو بنيتو لإجراء انتخابات عامة نزيهة فاز بها راؤول الفونسين، الذي انشأ لجنة الحقيقة في الأسبوع الأول من منصبه، والغى الحصانة التي كان العسكر منحوها لانفسهم.

وكانت مهمة اللجنة التحقيق في كل حالات الإختفاء القسري في سنوات الحكم العسكري، وتحديد موقع جثث الضحايا. وتألفت اللجنة من 13 عضواً، ثلاثة منهم عينهم الكونجرس. نشرت اللجنة تقريرها في كتاب مطبوع وعلى الأنترنت، وصدر فيلم وثائقي عن عملها (ويمكن مطالعة التقرير على الرابط:

http://web.archive.org/web/20031002040053/http://nuncamas.org/index2.htm)

تمكنت اللجنة من توثيق حوالى تسعة آلاف حالة اختفاء من بين ما قد يصل الى ثلاثين الف حالة في الفترة محل النظر. وحددت اللجنة الهياكل والممارسات المنظمة للاعتقال والتعذيب السري والقتل والتخلص من الجثث في مواقع غير معروفة. وتوصلت اللجنة الى ان كل هذه الممارسات القمعية قامت بها المؤسسة العسكرية وخططت لها وفق أوامر من أعلى مستويات القيادة. والأوامر هنا لا تعنى ان كبار الجنرالات ارسل فاكسا للزبانية لقتل او تعذيب شخص بعينه ولكنهم كانوا يعرفون ويدعمون هذه الممارسات عموماً.واوصت لجنة الحقيقة بوضع برنامج تعويضات لعائلات الضحايا والناجين والملاحقة القضائية ومتابعة التحقيقات وإصلاح النظام القضائي ووضع دورات تثقيفية وتدريبية في مجال حقوق الإنسان.

وفي السنوات التالية تسبب التقرير في عدة اجراءات رغم ان الجيش رفضه في البداية. فاضافة إلى اصلاحات دستورية وقانونية وانضمام إلى معاهدات واتفاقات دولية تكرس احترام حقوق الإنسان ادى التقرير إلى محاكمة وسجن خمسة جنرالات. ورغم ألاعيب تشريعية منعت ملاحقة باقي العسكريين عدة سنوات، ومنها قرارات عفو برلمانية فان النظام المدني بعدما استقر في عام 2003 الغي كل قوانين العفو، وجرت محاكمة 700 شخص تم إدانة خمسين منهم وسجنهم حتى الآن. وتلقي ضحايا الأعتقال والتعذيب أو عائلاتهم ثلاثة مليارات دولار أمريكى تعويضات على الأقل. وقامت اللجنة بعملها كله دون جلسات استماع علنية، ولكنها استخدمت شهادات من سبعة الاف شخص منهم 1500 من الناجين.

في اخر ساعاتي في زيارتي لبيونس ايريس ذهبت لقصر الرئاسة المفتوح معظم اجنحته للسياح. ترددت قبل دخول البيت الوردي (وهو الأسم الرسمي للقصر) متهيباً. بعد عبور اجهزة كشف الاسلحة والمعادن وجدت نفسي في مدخل ضخم وفي صالتيه المتتابعتين تزدان الحوائط بصور كثيرة مؤطرة لجنرالات الثورة والتحرير على الإستعمار الإسباني من أمثال سيمون بوليفار  في القرن التاسع عشر، والمناضلون  من أمثال سلفادور الليندي وتشي جيفارا من القرن العشرين. لم اعتقد في حياتي انني سأرى صورة لجيفارا في قصر رئاسي وهو يرتدي بذلة عسكرية جعلته اقرب لجنرالات التحرير.لم أر صوراً للجنرال بينوشيه قاتل الليندي او للجنرال بينيتو  زعيم الطغمة العسكرية في الأرجنتين.

في عالمنا العربي الآن وفي مصر خيار بسيط أمام جنرالات الجيوش والأمن وأين يريدون أن توضع صورهم في المستقبل. سواء فعل جيلي هذا أو فعله اولادنا فلدينا خياران:

الأول هو ظهور صور بعض هؤلاء الجنرالات في قوائم سوداء داخل سجلات الحقيقة التي ستسطرها لجان مستقلة، ونستطيع أن نضع نسخاً منها  في نصب تذكاري لضحايا الأنتهاكات، يمكن ان نبنيه تحت أي كوبرى في عواصم عربية عدة، والخيار الثاني هو ان تنتهي هذه الصور في أطر فخمة وانيقة محاطة بالإجلال والتقدير في ساحة القصر الرئاسي، يزورها الناس ويفخرون بها، وبدور اصحابها في انهاء عصور التعذيب ومحاسبة المسؤولين عنها.

إما تحت الكوبري أو داخل القصر. والخيار لكم .. ولنا أيضا من قبلكم.

نشر الكاتب الصحفي خالد منصور هذه التدوينة في مذكرة “نوت” بصفحته بموقع فيس بوك في 28 نوفمبر، وقال أنه قد نشرها منذ عامين في صحيفة التحرير، ويعيد نشرها لأنها تبعث فيه الامل. تتناول التدوينة وجود متاحف للقمع في بعض دول أمريكا الجنوبية، ومدى امكانية افتتاح متاحف شبيهة في مصر.

للإطلاع على النص الأصلي وتعليقات القراء:
http://on.fb.me/1igDsqr

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *